فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَجَوَازِهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: صِفَةُ اللِّعَانِ:

وَأَمَّا صِفَةُ اللِّعَانِ فَلَهُ صِفَاتٌ مِنْهَا أَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَيْسَ بِوَاجِبٍ إنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى الزَّوْجِ بِقَذْفِهَا هُوَ الْحَدُّ إلَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ عَنْهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِاللِّعَانِ.
وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا لَاعَنَ الزَّوْجُ هُوَ حَدُّ الزِّنَا وَلَهَا أَنْ تُخَلِّصَ نَفْسَهَا عَنْهُ بِاللِّعَانِ حَتَّى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُخَاصِمَهُ إلَى الْحَاكِمِ وَتُطَالِبَهُ بِاللِّعَانِ عِنْدَنَا، وَإِذَا طَالَبَتْهُ يُجْبِرُهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ امْتَنَعَ يُحْبَسُ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ كَالْمُمْتَنِعِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَيُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ وَعِنْدَهُ لَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِاللِّعَانِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُحْبَسُ إذَا امْتَنَعَ بَلْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.
وَكَذَا إذَا الْتَعَنَ الرَّجُلُ تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى اللِّعَانِ وَلَوْ امْتَنَعَتْ تُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ بِالزِّنَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ لَا تُجْبَرُ وَلَا تُحْبَسُ بَلْ يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْجَلْدَ عَلَى الْقَاذِفِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الْقَاذِفَ إذَا كَانَ زَوْجًا لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ إنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ يَدْفَعُهُ بِاللِّعَانِ فَكَانَ اللِّعَانُ مُخَلِّصًا لَهُ عَنْ الْحَدِّ.
وقَوْله تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعَانَهَا دَفْعًا لِحَدِّ الزِّنَا عَنْهَا إذْ الدَّرْءُ هُوَ الدَّفْعُ لُغَةً فَدَلَّ أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَيْهَا بِلِعَانِهِ ثُمَّ تَدْفَعُهُ بِلِعَانِهَا وَلِأَنَّ بِلِعَانِهِ يَظْهَرُ صِدْقُهُ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ إلَّا أَنَّ لَهَا أَنْ تُخَلِّصَ نَفْسَهَا عَنْهُ بِاللِّعَانِ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَاعَنَتْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فَلَا يَظْهَرُ صِدْقُ الزَّوْجِ فِي الْقَذْفِ فَلَا يُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} أَيْ فَلْيَشْهَدْ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُوجِبَ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ اللِّعَانَ فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَدَّ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يَجِبُ لِظُهُورِ كِذْبِهِ فِي الْقَذْفِ وَبِالِامْتِنَاعِ مِنْ اللِّعَانِ لَا يَظْهَرُ كِذْبُهُ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ أَوْ الْيَمِينِ يَظْهَرُ كَذِبُهُ فِيهِ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْهُ صَوْنًا لِنَفْسِهِ عَنْ اللَّعْنِ وَالْغَضَبِ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبْهَةِ فَكَيْفَ يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ؛ وَلِأَنَّ الِاحْتِمَالَ مِنْ الْيَمِينِ بَدَلٌ وَإِبَاحَةٌ وَالْإِبَاحَةُ لَا تَجْرِي فِي الْحُدُودِ فَإِنَّ مَنْ أَبَاحَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ.
وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَقَدْ قِيلَ أَنَّ مُوجَبَ الْقَذْفِ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ هُوَ الْحَدَّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ جَمِيعًا ثُمَّ نُسِخَ فِي الزَّوْجَاتِ وَجُعِلَ مُوجَبُ قَذْفِهِنَّ اللِّعَانَ بِآيَةِ اللِّعَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ قَتَلَهُ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ أَمْسَكَ أَمْسَكَ عَلَى غَيْظٍ ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ افْتَحْ فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ دَلَّ قَوْلُهُ: وَإِنْ تَكَلَّمَ بِهِ جَلَدْتُمُوهُ عَلَى أَنَّ مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْحَدَّ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ ثُمَّ نُسِخَ فِي الزَّوْجَاتِ بِآيَةِ اللِّعَانِ فَيَنْسَخُ الْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ الْعَامَّ الْمُتَقَدِّمَ بِقَدْرِهِ هَكَذَا هُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعَامِّ مَا وَرَاءَ قَدْرِ الْخَاصِّ سَوَاءٌ كَانَ الْخَاصُّ سَابِقًا أَوْ لَاحِقًا وَسَوَاءٌ عَلِمَ التَّارِيخَ وَبَيْنَهُمَا زَمَانٌ يَصْلُحُ لِلنَّسْخِ أَوْ لَا يَصْلُحُ، أَوْ جَهِلَ التَّارِيخَ بَيْنَهُمَا فَلَمْ تَكُنْ الزَّوْجَاتُ دَاخِلَاتٍ تَحْتَ آيَةِ الْقَذْفِ عَلَى قَوْلِهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ احْتِجَاجُهُ بِهَا؟.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْعَذَابِ يَقْتَضِي تَوَجُّهَ الْعَذَابِ لَا وُجُوبَهُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ رَفْعًا لَا دَفْعًا عَلَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْعَذَابِ هُوَ الْحَبْسُ إذْ الْحَبْسُ يُسَمَّى عَذَابًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْهُدْهُدِ: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ لَأَحْبِسَنَّهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْعَذَابَ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الْمَنْعِ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: أَعْذَبَ أَيْ مَنَعَ وَأَعْذَبَ أَيْ امْتَنَعَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا وَمَعْنَى الْمَنْعِ يُوجَدُ فِي الْحَبْسِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُنَا أَنَّهَا إذَا امْتَنَعَتْ مِنْ اللِّعَانِ تُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ بِالزِّنَا فَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ وَهُوَ الْحَبْسُ بِاللِّعَانِ فَإِذَا قُلْنَا بِمُوجَبِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالْإِبْرَاءَ وَالصُّلْحَ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي جَانِبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالْإِبْرَاءَ وَالصُّلْحَ؛ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُدُودِ.
وَكَذَا لَوْ عَفَتْ عَنْهُ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ أَوْ صَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَصِحَّ وَعَلَيْهَا رَدُّ بَدَلِ الصُّلْحِ وَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِاللِّعَانِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَمِنْهَا أَنْ لَا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ حَتَّى لَوْ وَكَّلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ بِاللِّعَانِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ فَلَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ كَسَائِرِ الْحُدُودِ؛ وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ أَوْ يَمِينٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ فَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ فَجَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَة إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ: بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ اللِّعَانِ:

وَأَمَّا بَيَانُ سَبَبِ وُجُوبِ اللِّعَانِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَذْفُ بِالزِّنَا وَأَنَّهُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ، وَالثَّانِي بِنَفْيِ الْوَلَدِ أَمَّا الَّذِي بِغَيْرِ نَفْيِ الْوَلَدِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةُ أَوْ زَنَيْتِ أَوْ رَأَيْتُك تَزْنِينَ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: جُومِعْتِ جِمَاعًا حَرَامًا أَوْ وُطِئْتِ وَطْئًا حَرَامًا فَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ لِعَدَمِ الْقَذْفِ بِالزِّنَا.
وَلَوْ قَذَفَهَا بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ فَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ اللِّعَانُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا عِنْدَهُ فَلَمْ يُوجِبْ الْقَذْفَ بِالزِّنَا وَعِنْدَهُمَا هُوَ زِنَا.
وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَقَذَفَهُنَّ جَمِيعًا بِالزِّنَا فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ أَوْ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِالزِّنَا بِكَلَامٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ وَهُنَّ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ يُلَاعِنُ فِي كُلِّ قَذْفٍ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَى حِدَةٍ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ اللِّعَانِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَهُوَ الْقَذْفُ بِالزِّنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُكْتَفَى بِحَدٍّ وَاحِدٍ عَنْ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَتَدَاخَلُ.
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَالْبَعْضُ مِنْهُنَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ يُلَاعِنُ مِنْهُنَّ مَنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ لَا غَيْرُ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ وَالْحَدُّ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَقَذَفَ أُمَّهَا وَقَذْفُ الزَّوْجَةِ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ يُوجِبُ الْحَدَّ ثُمَّ إنَّهُمَا إذَا اجْتَمَعَا عَلَى مُطَالَبَةِ الْحَدِّ بُدِئَ بِالْحَدِّ لِأَجْلِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ فِي الْبِدَايَةِ إسْقَاطَ اللِّعَانِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَاللِّعَانُ شَهَادَةٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَدَّيْنِ إذَا اجْتَمَعَا وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ بُدِئَ بِمَا فِيهِ إسْقَاطُ الْآخِرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَقَدْ اسْتَطَعْنَا دَرْءَ الْحَدِّ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَإِنْ لَمْ تُطَالِبْهُ الْأُمُّ وَطَالَبَتْهُ الْمَرْأَةُ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا وَيُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ لِلْأُمِّ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ طَالَبَتْهُ بِهِ كَذَا ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ لِلْأُمِّ بَعْدَ اللِّعَانِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ إقَامَةِ اللِّعَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هُوَ خُرُوجُ الزَّوْجِ مِنْ أَهْلِيَّةِ اللِّعَانِ لِصَيْرُورَتِهِ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أُمُّهَا مَيِّتَةً فَقَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ كَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ وَالْخُصُومَةُ فِي الْقَذْفَيْنِ لِوُجُوبِ اللِّعَانِ وَالْحَدِّ ثُمَّ إنْ خَاصَمَتْهُ فِي الْقَذْفَيْنِ جَمِيعًا يُبْدَأُ بِالْحَدِّ فَيُحَدُّ لِلْأُمِّ حَدَّ الْقَذْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ اللِّعَانِ، وَإِنْ لَمْ تُخَاصِمْ فِي قَذْفِ أُمِّهَا وَلَكِنَّهَا خَاصَمَتْ فِي قَذْفِ نَفْسِهَا يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا وَيُحَدُّ لِلْأُمِّ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةَ بِالزِّنَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَقَذَفَهَا بِالزِّنَا بَعْدَ التَّزَوُّجِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ إنْ خَاصَمَتْهُ فِي الْقَذْفَيْنِ جَمِيعًا يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ حَتَّى يَسْقُطَ اللِّعَانُ وَلَوْ لَمْ تُخَاصِمْ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَخَاصَمَتْ فِي اللِّعَانِ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ إذَا خَاصَمَتْ فِي الْحَدِّ يُحَدُّ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا الَّذِي يَنْفِي الْوَلَدَ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: هَذَا الْوَلَدُ مِنْ الزِّنَا، أَوْ يَقُولَ: هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ هَذَا الْوَلَدُ لَيْسَ مِنِّي لَا يَكُونُ قَذْفًا لَهَا بِالزِّنَا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ ابْنَهُ بَلْ يَكُونُ ابْنَ غَيْرِهِ وَلَا تَكُونُ هِيَ زَانِيَةً بِأَنْ كَانَتْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَالْجَوَابُ نَعَمْ هَذَا الِاحْتِمَالُ ثَابِتٌ لَكِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّهُ إنْ نَفَاهُ عَنْ الْأَبِ الْمَشْهُورِ بِأَنْ قَالَ لَهُ: لَسْتُ بِأَبِيكَ يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ حَدُّ الْقَذْفِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ وَلَوْ جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ فَقَالَ لَهَا: لَمْ تَلِدِيهِ لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ لِعَدَمِ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الْوِلَادَةَ، وَإِنْكَارُ الْوِلَادَةِ لَا يَكُونُ قَذْفًا فَإِنْ أَقَرَّ بِالْوِلَادَةِ أَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَيْسَ بِابْنِي وَجَبَ اللِّعَانُ لِوُجُودِ الْقَذْفِ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ: لَيْسَ هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِعَدَمِ الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْقَذْفِ وَجَبَ اللِّعَانُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَجِبْ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْقَذْفِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْقَذْفِ وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى لِحَمْلِ امْرَأَتِهِ فَجَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ اسْتَحَقَّ الْوَصِيَّةَ، وَإِذَا تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهِ وَقْتَ النَّفْيِ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّفْيِ إذْ الْحَمْلُ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ، فَإِنَّ الْجَارِيَةَ تُرَدُّ عَلَى بَائِعِهَا وَيَجِبُ لِلْمُعْتَدَّةِ النَّفَقَةُ لِأَجْلِ حَمْلِهَا فَإِذَا نَفَاهُ يُلَاعِنُ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَمْ تَتَيَقَّنْ بِوُجُودِهِ عِنْدَ الْقَذْفِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حَادِثٌ وَلِهَذَا لَا تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَذْفَ بِالْحَمْلِ لَوْ صَحَّ إمَّا أَنْ يَصِحَّ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الثَّانِي لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ لِلْحَالِ لِجَوَازِ أَنَّهُ رِيحٌ لَا حَمْلٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ: إنْ كُنْتِ حَامِلًا فَأَنْتِ زَانِيَةٌ وَالْقَذْفُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِعَيْبِ الْحَبَلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالرَّدِّ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَالِ لِوُجُودِ الْعَيْبِ ظَاهِرًا، وَاحْتِمَالُ الرِّيحِ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُورِثُ إلَّا شُبْهَةً وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ الْقَذْفِ، وَالنَّفَقَةُ لَا يَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِالْحَمْلِ عِنْدَنَا فَإِنَّهَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْحَامِلِ، وَلَا يُقْطَعُ نَسَبُ الْحَمْلِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلَاعَنُ وَقَطْعُ النَّسَبِ مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ.
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَثْبُتُ لِلْوَلَدِ لَا لِلْحَمْلِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْوَلَدِ بِالِانْفِصَالِ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُلَاعَنُ وَيُقْطَعُ نَسَبُ الْحَمْلِ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَامِلٌ وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِهَا فَدَلَّ أَنَّ الْقَذْفَ بِالْحَمْلِ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَقَطْعَ نَسَبِ الْحَمْلِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هِلَالًا لَمْ يَقْذِفْهَا بِالْحَمْلِ بَلْ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَذَكَرَ الْحَمْلَ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: زَنَيْتِ وَأَنْتِ حَامِلٌ يُلَاعَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْ الْقَذْفَ بِالشَّرْطِ وَأَمَّا قَطْعُ النَّسَبِ فَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ هُنَاكَ وَلَدًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا فَهُوَ لِكَذَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا فَهُوَ لِكَذَا وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالْوَحْيِ وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَلَا يُنْفَى الْوَلَدُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَجَوَازِهِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ اللِّعَانِ وَجَوَازِهِ فَأَنْوَاعٌ: بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ خَاصَّةً، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فِيهِ، وَبَعْضُهَا يَرْجِعَ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ.
أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ خَاصَّةً فَوَاحِدٌ وَهُوَ عَدَمُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ ذَلِكَ فِي آيَةِ اللِّعَانِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} الْآيَةَ حَتَّى لَوْ أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهُودِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا لَا يَثْبُتُ اللِّعَانُ وَيُقَامُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ زِنَاهَا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهُمْ الزَّوْجُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الزَّوْجِ قَذْفٌ قَبْلَ ذَلِكَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الزَّوْجَ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حَمَلَهُ الْغَيْظُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ يَدْفَعُ الْمَغْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ اللِّعَانُ وَلَا شَهَادَةَ لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَنَا أَنَّ شَهَادَتَهُ بِالْقَبُولِ أَوْلَى مِنْ شَهَادَةِ الْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهَا أَبْعَدُ مِنْ التُّهْمَةِ إذْ الْعَادَةُ أَنَّ الرَّجُلَ يَسْتُرُ عَلَى امْرَأَتِهِ مَا يَلْحَقُهُ بِهِ شَيْنٌ فَلَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا فِي شَهَادَتِهِ فَتُقْبَلُ كَشَهَادَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَقَوْلُهُ إنَّهُ يَدْفَعُ الْمَغْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ قَذْفٌ يُوجِبُ اللِّعَانَ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ هَذِهِ الشَّهَادَةَ قَذْفٌ لِيَدْفَعَ اللِّعَانَ بِهَا فَصَارَ كَشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّهَا تُقْبَلُ وَلَا يُجْعَلُ دَافِعًا لِلْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ كَذَا هَذَا، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَذَفَهَا أَوَّلًا ثُمَّ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ سِوَاهُ فَشَهِدُوا فَهُمْ قَذَفَةٌ يُحَدُّونَ وَعَلَى الزَّوْجِ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَبَقَ مِنْهُ الْقَذْفُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ فَهُوَ بِشَهَادَتِهِ جُعِلَ دَافِعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَالزِّنَا لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ ثَلَاثَةٍ فَصَارَ قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَيُلَاعَنُ الزَّوْجُ لِقَذْفِ زَوْجَتِهِ فَإِنْ جَاءَ هُوَ وَثَلَاثَةٌ شَهِدُوا أَنَّهَا قَدْ زَنَتْ فَلَمْ يَعْدِلُوا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ زِنَاهَا لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِشَهَادَةِ الْفُسَّاقِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّوْفِيقِ فِي بَيَانِهِ؟ فَقَدْ وُجِدَ إتْيَانُ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ؟ وَلَا لِعَانَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ شَاهِدٌ وَلَيْسَ بِقَاذِفٍ فَإِنْ شَهِدُوا مَعَهُ ثَلَاثَةٌ عُمْيٌ حُدَّ وَحُدُّوا أَيْ يُلَاعَنُ الزَّوْجُ وَيُحَدُّونَ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ الْعُمْيَانَ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ قَطْعًا فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ حُجَّةً أَصْلًا فَكَانُوا قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُلَاعَنُ الزَّوْجُ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ إذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَلَمْ يَأْتِ بِهِمْ.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ خَاصَّةً فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا إنْكَارُهَا وُجُودَ الزِّنَا مِنْهَا حَتَّى لَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ وَيَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا وَهُوَ الْجَلْدُ إنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحْصَنَةٍ وَالرَّجْمُ إنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً لِظُهُورِ زِنَاهَا بِإِقْرَارِهَا، وَالثَّانِي عِفَّتُهَا عَنْ الزِّنَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً لَا يَجِبُ اللِّعَانُ بِقَذْفِهَا كَمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ عَفِيفَةً فَقَدْ صَدَّقَتْهُ بِفِعْلِهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ صَدَّقَتْهُ بِقَوْلِهَا وَلِمَا نَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَنَذْكُرُ تَفْسِيرَ الْعِفَّةِ عَنْ الزِّنَا فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ثُمَّ قَذَفَهَا زَوْجُهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اللِّعَانُ وَلَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِأَنَّهَا وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا فَذَهَبَتْ عِفَّتُهَا، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ: يَجِبُ بِقَذْفِهَا الْحَدُّ وَاللِّعَانُ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَوُجُوبُ الْمَهْرِ فَكَانَ كَالْمَوْجُودِ فِي النِّكَاحِ فَلَا يُزِيلُ الْعِفَّةَ عَنْ الزِّنَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ لِعَدَمِ النِّكَاحِ إنَّمَا الْمَوْجُودُ شُبْهَةُ النِّكَاحِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ عَنْ الْقَاذِفِ لِمَكَانِ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَهُوَ أَنْ يَكُونَا زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ مُسْلِمَيْنِ نَاطِقَيْنِ غَيْرَ مَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ أَمَّا اعْتِبَارُ الزَّوْجِيَّةِ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَصَّ اللِّعَانَ بِالْأَزْوَاجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} وَأَنَّهُ حُكْمٌ ثَبَتَ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ التَّعَبُّدِ وَإِنَّمَا وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِهِ فِي الْأَزْوَاجِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا ثُمَّ قَذَفَهَا لَمْ يُلَاعِنْهَا لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ إذْ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُهَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ إذَا كَانَ بِنَفْيِ الْوَلَدِ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى قَطْعِ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ كَمَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَيُشْرَعُ اللِّعَانُ لِقَطْعِ النَّسَبِ وَالْجَوَابُ أَنَّ قَطْعَ النَّسَبِ يَكُونُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ اللِّعَانِ وَلَا لِعَانَ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِهِ وَلَا وُجُوبَ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ.
وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ قَذَفَهَا بِالزِّنَا لَا يَجِبُ اللِّعَانُ لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ لِبُطْلَانِهَا بِالْإِبَانَةِ وَالثَّلَاثِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ثُمَّ قَذَفَهَا يَجِب اللِّعَانُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُبْطِلُ الزَّوْجِيَّةَ وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِزِنًى كَانَ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَاحْتَجَّ بِآيَةِ الْقَذْفِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، وَلَنَا آيَةُ اللِّعَانِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْقَذْفُ بِزِنًا بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ أَوْ قَبْلَهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ قَذَفَ زَوْجَتَهُ أَنَّهُ أَضَافَ الْقَذْفَ إلَيْهَا وَهِيَ لِلْحَالِ زَوْجَتُهُ إلَّا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِزِنًى مُتَقَدِّمٍ وَبِهَذَا لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتَهُ فِي الْحَالِ كَمَا إذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً بِزِنًا مُتَقَدِّمٍ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْقَذْفُ كَذَا هَاهُنَا.
وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَهِيَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى آيَةِ اللِّعَانِ فَيَجِبُ تَخْرِيجُهَا عَلَى التَّنَاسُخِ فَيَنْسَخُ الْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ الْعَامَّ الْمُتَقَدِّمَ بِقَدْرِهِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَهُ يَقْضِي الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يُلَاعَنُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُلَاعَنُ عَلَى قَبْرِهَا وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي آيَةِ اللِّعَانِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ حَالِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ.
وَلَنَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الْآيَةَ خَصَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اللِّعَانَ بِالْأَزْوَاجِ وَقَدْ زَالَتْ الزَّوْجِيَّةُ بِالْمَوْتِ فَلَمْ يُوجَدْ قَذْفُ الزَّوْجَةِ فَلَا يَجِبُ اللِّعَانُ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الْآيَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ بِقَذْفِ الْأَزْوَاجِ بِقَوْلِهِ: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ تَبْقَ زَوْجَةً لَهُ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْإِسْلَامِ وَالنُّطْقِ وَعَدَمِ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ فَالْكَلَامُ فِي اعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ شَرْطًا لِوُجُوبِ اللِّعَانِ فَرْعٌ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى اللِّعَانِ وَمَا يُثْبِتُهُ شَرْعًا وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ وَبِالْغَضَبِ وَإِنَّهُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي جَانِبِهَا قَائِمٌ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: اللِّعَانُ أَيْمَانٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ مَقْرُونَةٌ بِاللَّعْنِ وَالْغَضَبِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَمَنْ لَا فَلَا عِنْدَنَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَفْسِيرِ اللِّعَانِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} فَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى اللِّعَانَ بِالشَّهَادَةِ بِاَللَّهِ وَالشَّهَادَةُ بِاَللَّهِ يَمِينٌ.
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنَّهُ يَمِينٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَمَا قَرَنَهُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا الْيَمِينُ هِيَ الَّتِي تَفْتَقِرُ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَكَانَتْ شَهَادَةً عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لِلْمَرْأَةِ فِيهَا شَهَادَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَشْهَدَ الْمَرْأَةُ عَشْرَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَمِينٌ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ حُبْلَى فَقَالَ لَهَا: «إذَا وَلَدْتِ وَلَدًا فَلَا تُرْضِعِيهِ حَتَّى تَأْتِينِي بِهِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ وَلَدَتْهُ أَحْمَرَ مِثْلَ الدِّبْسِ فَهُوَ يُشْبِهُ أَبَاهُ الَّذِي نَفَاهُ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ أَسْوَدَ أَدْعَجَ جَعْدًا قَطَطًا فَهُوَ يُشْبِهُ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ فَلَمَّا وَضَعَتْ وَأَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ إلَيْهِ فَإِذَا هُوَ أَسْوَدُ أَدْعَجُ جَعْدٌ قَطَطٌ عَلَى مَا نَعَتَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا الْأَيْمَانُ الَّتِي سَبَقَتْ لَكَانَ لِي فِيهَا رَأْيٌ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» فَقَدْ سَمَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّعَانَ أَيْمَانًا لَا شَهَادَةً فَدَلَّ أَنَّهُ يَمِينٌ لَا شَهَادَةٌ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الشُّهَدَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ} وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالثَّانِي أَنَّهُ سَمَّى اللِّعَانَ شَهَادَةً نَصًّا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} وَالْخَامِسَةُ أَيْ الشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ وَقَالَ تَعَالَى فِي جَانِبِهَا: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ}
وَالْخَامِسَةُ أَيْ الشَّهَادَةُ الْخَامِسَةُ إلَّا أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّاهُ شَهَادَةً بِاَللَّهِ تَأْكِيدًا لِلشَّهَادَةِ بِالْيَمِينِ، فَقَوْلُهُ أَشْهَدُ يَكُونُ شَهَادَةً وَقَوْلُهُ بِاَللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا وَهَذَا مَذْهَبُنَا أَنَّهُ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْمُخَالِفُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِاللَّفْظَيْنِ فِي مَعْنَيَيْنِ وَفِيمَا قَالَهُ حَمَلَ اللَّفْظَيْنِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ شَهَادَةٌ أَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ لَفْظَ الشَّهَادَةِ وَحَضْرَةَ الْحَاكِمِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ لَوْ كَانَ شَهَادَةً لَكَانَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ فَنَقُولُ هُوَ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْيَمِينِ فَيُرَاعَى فِيهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَمَعْنَى الْيَمِينِ وَقَدْ رَاعِينَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِيهِ بِاشْتِرَاطِ لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ فَيُرَاعَى مَعْنَى الْيَمِينِ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْعَدَدِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ جَمِيعًا وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الشَّهَادَاتِ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ حَيْثُ سَمَّاهُ شَهَادَةً نَقُولُ بِمُوجَبِهِ أَنَّهُ يَمِينٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ شَهَادَةً فَهُوَ شَهَادَةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْيَمِينِ وَاَللَّه تَعَالَى الْمُوَفِّقُ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا الْأَصْلُ تُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ، أَمَّا اعْتِبَارُ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ فَلِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فَلَا يَكُونَانِ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَالْمَمْلُوكُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ بِالْإِجْمَاعِ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْكَافِرِ.
وَإِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ فَالْكَافِرُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْكَافِرِ فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ حُكْمِهَا وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَنَا، وَاللِّعَانُ عِنْدَنَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ فَمَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ.
وَأَمَّا اعْتِبَارُ النُّطْقِ فَلِأَنَّ الْأَخْرَسَ لَا شَهَادَةَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ؛ وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مِنْهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ، وَالْقَذْفُ بِالْإِشَارَةِ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْقَذْفِ بِالْكِتَابَةِ وَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ كَمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِمَا نَذْكُرُهُ فِي الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَلَا شَهَادَةَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ شَهَادَتَهُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَذْفُ الْفَاسِقِ وَالْأَعْمَى فَإِنَّهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ وَلَا شَهَادَةَ لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَهُ شَهَادَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمَا جَمِيعًا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا جَازَ قَضَاؤُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَمْلُوكِ إلَّا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، ثُمَّ هَذِهِ الشَّرَائِطُ كَمَا هِيَ شَرْطُ وُجُوبِ اللِّعَانِ فَهِيَ شَرْطُ صِحَّةِ اللِّعَانِ وَجَوَازِهِ حَتَّى لَا يَجْرِي اللِّعَانُ بِدُونِهَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَ الْمَمْلُوكَيْنِ وَالْأَخْرَسَيْنِ وَالْمَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ فَكَانُوا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ وَكَذَا بَيْنَ الْكَافِرِينَ؛ لِأَنَّ يَمِينَ الْكَافِرِ صَحِيحَةٌ عِنْدَهُ لَا مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ وَلِهَذَا قَالَ يَجُوزُ ظِهَارُ الذِّمِّيِّ وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمَا إذَا الْتَعْنَا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا حَتَّى عُزِلَ أَوْ مَاتَ فَالْحَاكِمُ الثَّانِي يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَمَّا كَانَ شَهَادَةً فَالشُّهُودُ إذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَمَاتَ أَوْ عُزِلَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَعْتَدَّ الْحَاكِمُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ.
وَقَوْلُهُ لَا يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَلَكِنَّ الْوَجْهَ لَهُ أَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ فَإِذَا الْتَعْنَا فَكَأَنَّهُ أُقِيمَ الْحَدُّ، وَالْحَدُّ بَعْدَ إقَامَتِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْعَزْلُ وَالْمَوْتُ وَالْجَوَابُ أَنَّ حُكْمَ الْقَذْفِ لَا يَتَنَاهَى إلَّا بِالتَّفْرِيقِ فَيُؤَثِّرُ الْعَزْلُ وَالْمَوْتُ قَبْلَهُ، ثُمَّ ابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ لَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمْ: لَا لِعَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَالْعَبْدِ وَالْحُرَّةِ، وَالْحُرِّ وَالْأَمَةِ وَالْكَافِرِ وَالْمُسْلِمَةِ» وَصُورَتُهُ الْكَافِرُ أَسْلَمَتْ زَوْجَتُهُ فَقَبْلَ أَنْ يُعْرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى زَوْجِهَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا.
(وَلَنَا) أَصْلٌ آخَرُ لِتَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ قَذْفٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لَوْ كَانَ الْقَاذِفُ أَجْنَبِيًّا لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ إذَا كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ مُوجَبُ الْقَذْفِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَمَا أَنَّ الْحَدَّ مُوجَبُ الْقَذْفِ فِي الْأَجْنَبِيِّ وَقَذْفُ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَإِذَا كَانَ زَوْجًا لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ.
وَابْتِدَاءُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عُمُومُ آيَةِ اللِّعَانِ إلَّا مَنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ شُهَدَاءَ فِي آيَةِ اللِّعَانِ وَاسْتَثْنَاهُمْ مِنْ الشُّهَدَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي آيَةِ الْقَذْفِ وَلَمْ يَدْخُلْ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ فَكَذَا فِي الْمُسْتَثْنَى؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجٌ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ وَتَحْصِيلٌ مِنْهَا، وَأَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ وَالْمَقْذُوفِ فِيهِ وَنَفْسِ الْقَذْفِ فَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.